الجمعة، 31 أكتوبر 2025

التنين التاسع والعشرون

 

فوق أرصفة ميناء سياتل المغطاة بالملح، يوجد كوخ قبيح من الألواح الخشبية، نوافذه ملطخة بالأوساخ وجدرانه مغطاة بشباك الصيد.

هناك حانة أبلاها العمر، ولكنها ملاذ لعمال السفن والبحارة الذين يقضون أيامهم في الركض عبر هياكل السفن المتهالكة، ويقضون لياليهم في يشربون حتى يفقدون الوعي.

إنها مكان دنيء، فأي تعليق سخيف سيعرّضك لتلقي لكمة في وجهك أو ربما تجد نفسك مرميّا في المياه القذرة.

في أي ليلة من الليالي، قد تجد بحارًا صينيًا عجوزًا متكئًا على منضدة الحانة، عريض المنكبين وضخم البطن وله نظرة جامدة لا تفارق وجهه العريض. اسمه هاو مينغ، ولكن بالنسبة لرواد الحانة الدائمين فهو معروف باسم "الرجل ذو التنانين الثمانية والعشرين". هناك ثمان وعشرون وشما لزواحف طويلة تتشابك مع بعضها عبر ذراعيه وساقيه وتلتف عبر عضلات ظهره.

يدعي هاو أن كل تنين يمثل جزءًا مهمًا من حياته، حيث تتحول القصص إلى حبر. اشتري له كأسًا وسيسعد بمشاركة الحكايات المثيرة خلف كل واحد منها، ويحكي لك كيف أن ألوان التنين تمثل ما مرّ به من فرح ورعب وحب وفقدان وموت. قم بزيارته في 28 ليلة واشتري له 28 شرابًا وسترى قصص حياته تتشابك وتندمج أمامك وتتحول إلى صورة كاملة لهذا العجوز السكير.

وبعد ذلك، بعد أن تستنفد خزينة مغامراته، تستبيحه عذرا وتغادر في جنح الليل، حيث يتمايل ضوء مصابيح الحانة على الأمواج المظلمة. سيُكمِل الرجل العجوز شرابه ويضم قميصه إلى صدره، ليخفي سره الأخير، وشم تنين آخر.

لقد أقسم منذ زمن طويل ألا يكشف أبدًا عن الوشم أو حكايته لأي روح حية. إلا واحدا... كانت ليلة عاصفة، وانهمر المطر عبر النوافذ وكأنه حبر من أثر الأوساخ، وعصفت الريح عبر الخشب المتشقق، ثم روى لي القصة...

كانت ليلة مسلية حيث كنت أستمتع بشرابي وأشاهد مينغ وهو يوسع ضابط تموين مخمور ضربا، حيث رمى كلامًا حول عيونه الضيقة. وقع الضابط إلى الوراء، وأمسك بقميص مينغ ومزق مقدمته وكشف للحظات عن صدره.

زأر مينغ ولكم السكير تحت ذقنه وأسقطه أرضا. سحب مينغ قميصه على كتفيه وعاد إلى شرابه. عادت الضوضاء في الحانة إلى طبيعتها، وواصل الجميع ضحكهم ومزاحهم. كنت الوحيد الذي رآه – الثعبان الأسود المنقوش على قلبه. تنين صيني يتلوى ذيله العريض في حلقات، وشواربه الطويلة تبرز من وجهه كأنه شعر مبلل ومتشابك...

سلّحتُ نفسي بالثقة وكأس من الكحول، وجلست بجواره وقدمت له الكأس. عرفني بأنني أحد الزبائن الدائمين وقبل عرضي. غمز وهو يمد ذراعيه "حسنًا يا صديق، ما هي القصة التي تريد أن تسمعها الليلة؟" أشرت إلى صدره نحو الثعبان المختبئ عند قلبه. اختفت ابتسامته في لمح البصر. حدق في عينيّ، وانقلبت شفتاه الثقيلتان إلى عبوس وتجهّم. قال: "ليست قصة جيدة، انسَ أنك رأيته".

شعرت بالرغبة في الاستسلام، لكنني لاحظت أنه يتأرجح قليلاً في كرسيه. واغتنمت الفرصة، وطبطبتُ على كتفه، وأخبرته ألا داعي أن يقلق، وطلبت له كؤوسا أخرى تعبيرا عن نيّتي الطيبة. ثم انهار بعد ساعتين وعشرة كؤوس.

 

بدأ يبكي بهدوء أمام كأسه وأعرب عن أسفه، وأنه يريد أن يخبرني لكنه أقسم ألا يفعل. اخترتُ كلماتي معه بعناية ودقة مثل مشرط الجراح، ودخلتُ في عقله الثمل. ثم أغمض عينيه وبدأ قصة التنين الأسود. سأشاركها معكم:

شقّت السفينة الشراعية طريقها عبر تيارات بحر الصين الجنوبي. كان بدنها مليئا بالأرز ومتوجهة إلى سيدني في رحلة مدتها ثلاثة أسابيع. كان مينغ شابا لم يحفر العمر أخاديده على وجهه بعد، وكان عاملًا بسيطًا على السفينة. توالت الأيام والليالي بينما أدى مينغ واجبه، وكان عقله ثابتا على الوجهة.

كانت حالة السفينة سيئة وبحاجة إلى عملية إصلاح طويلة في الحوض الجاف عندما تصل إلى الميناء، وهذا يمنح الطاقم إجازة طويلة على الشاطئ. ظل الرجال يتمازحون كل ليلة عما سيفعلونه هناك، ما سيشربون من شراب، والأماكن التي سيرونها، ومن سيقابلون من النساء... ولكن غدر بهم القدر في اليوم العاشر من الرحلة.

مع حلول الصباح، هب نسيم من الشمال وتحول بسرعة إلى إعصار. ضربت السفينة أمواج ورياح عاتية. على مدار الثلاثين ساعة التالية، صارع مينغ والطاقم ضد هذه المحنة، وعملوا على موازنة ثقل الأحمال وضخ الماء. أخرج كل رجل كل ما بداخله من قوة لإنقاذ السفينة وكذلك حياته. وقع اثنان من الطاقم عن سطح السفينة وابتلعتهم العاصفة. وبعد طول انتظار، لم يسعهم شيء سوى الجلوس في المقصورة المظلمة وانتظار رحمة البحر.

استيقظ الطاقم على شروق الشمس، وعاد البحر هادئًا ومستويًا من جديد. خرجوا وعاينوا الأضرار. تمزقت الدفة ودمرت منطقة المحرك، وبهذا سارت السفينة على غير هدى. غمرت المياه المخزن وضاعت الحمولة. والأسوأ من ذلك أن الأمواج المتلاطمة وصلت إلى قمة السفينة وحطمت برج الاتصالات. بدون مذياع أو نظام ملاحة، ونقص في الغذاء والمياه العذبة، انجرفت السفينة المعطلة بلا حول أو قوة عبر المياه الزرقاء.

استلقى مينغ على السطح وشعر بأشعة الشمس تضرب جسده بفسوة. نفدت المؤن منذ ثلاث ليالٍ وتم تقنين الماء بينهم. توفي عامل بعد أن التهب جرحه. وهرب آخر من الموت البطيء بأن شنق نفسه. انهارت معنوياتهم، حتى أن الربان بدأ يتحسّس مسدسه. ثم ظهر ضوء في الأفق في الليلة التالية...

"النجاة!" بكى الرجال فرحا. أسرعوا بإشعال نار على سطح السفينة ولوحوا بالمصابيح في الظلام وهم يصرخون لمنقذيهم. ونجحت جهودهم، إذا بدا أن الضوء يقترب.

انخفض صوت مينغ إلى همس في هذا الجزء من القصة ...

زادت فرحة الطاقم مع اقتراب السفينة. وسرعان ما رأوا نورا ثانيا تحت الأول. ضحكوا وهتفوا لهم عبر الماء. إلا مينغ...

ابتعد مينغ عن الضوء ونزل من سطح السفينة ودخل المقصورة. ونظر من إحدى الكوّات المعدنية، وراقب رفاقه وهم يدركون ببطء ما أدركه قبلهم. لم يكن هناك مصباحان. كان هناك ضوء واحد ينعكس على سطح الماء. طفت تلك السفينة عالياً فوق الأمواج، وكانت تحوم في الهواء. قبة فضية يبلغ عرضها مئات الأمتار لدرجة أنها حجبت النجوم وهي تهبط على السفينة، وكان جانبها السفلي مشتعلًا بضوء حارق كالشمس. نزلت نار من هذا الضوء على السفينة وغمرت سطحها والطاقم...

نزل مينغ تحت الكوة وقلبه يدق بعنف. سمع صرخات رفاقه في الخارج وهي ترتفع وسط قرقعة الهواء. سمع طلقة مسدس، ثم أخرى. هرب مينغ من مكانه ووجد خزانة معدنية، فدخلها وأغلق الباب. طلقات أخرى. ثم تتحول صرخات الرجال إلى صياح مرعوب. انحنى مينغ ونظر من خلال شق عند أسفل باب الخزانة. ثم توقف الصراخ فجأة.

ثم أتى رمح من نور وضرب القارب، وصدر أنين من الهيكل الفولاذي. غمر هذا الجحيم القارب واخترق المقصورة. دخل النور إلى الشق وأعمى عينَي مينغ الذي صرخ ووقع مكانه. اختفى الضوء وخيّم الصمت على السفينة.

أحسّ مينغ برأسه يدور من أثر طنين أذنيه وحرقة عينيه. عادت الرؤية إلى عينيه ببطء وهدأ الرنين في رأسه. انحني لينظر من الشق مرة أخرى ولم يرى شيئا. مرّت الدقائق ومدّ يده ببطء إلى مزلاج الباب. ثم تجمد مكانه. سمع صوتا هادئا: "بيت... بات..."

أصغى مينغ إلى السكون في الخارج وهو بالكاد يسمع شيئا من وقع دقات قلبه. "بيت... بات... بيت... بات... بيت... بات..." انحنى إلى الشق ونظر عبر المقصورة المظلمة. "بيت... بات... بيت... بات..." الضجيج الخفيف يزداد. "بيت... بات... بيت... بات..."

جاهد ليرى ما أمكنه، وألصق رأسه بالأرضية المعدنية. نزل محلاق أسود طويل من الظلام. "بيت..." كاد مينغ أن يصرخ، لكنه منع نفسه في اللحظة الأخيرة.

حدق بعينين واسعتين ليرى أرجلا رفيعة لمخلوق غير معروف وهي تنزل بهدوء على الأرض. أرجل أسطوانية بعرض بوصة، وتنتهي بكعب يتسطح عند نزوله على المعدن. "بيت..." تتحرك الأرجل جيئة ذهابًا أمام الخزانة مثل حفيف الأوراق اللطيفة. "بات..."

كان يسمع دمدمة أقدام المخلوق التي تبدو كمخاليق النباتات وهو يسير ببطء داخل المقصورة. ثم توقفت الأقدام أمام الخزانة. تجمد مينغ من الخوف وهو يراقب المخلوق يقترب بهدوء…

ثم سمع صوتا هادئًا، مثل تحريك الستارة، فأدرك أن الأذرع تتلمس وتستكشف باب الخزانة. ثم بدأ المزلاج يتحرك ويصدر صريرا حادا. أغمض مينغ عينيه عندما أدرك أن المزلاج فُتِح...

فجأة غمر نور ساطع المكان ودخل من الشق. سقط المزلاج فجأة، تراجعت الخطوات واختفى النور.

غرق مينغ في الظلام من جديد. حل الصباح وخرج ببطء من الخزانة وتجول على سطح السفينة. كانت السفينة خالية من الحياة. غلّف السطح والمقصورة لون أسود لامع. هناك ثقب واسع في الحديد الذائب ووصل إلى الهيكل.

وبسرعة، أخذ مينغ ما تبقى من المياه العذبة وخزنها في قارب النجاة، مع مسدس محترق وجده قرب السياج. كان متيقنا أنه سيموت جوعا إن بقي هنا، فركب القارب وجدف إلى ما لا نهاية حتى اختفت السفينة في الأفق.

وفي اليوم التالي، تم اكتشافه وإنقاذه من قبل سفينة شحن أسترالية. ظل يثرثر حول الأضواء العائمة، والأرجل الرقيقة وصوتها الغريب في الليل. وبعد أسبوع، أوضح مينغ للمحققين أن خزانات وقود انفجرت وغرق جميع العمال إلا هو. لم يتم العثور على السفينة أبدًا وانحسر اهتمام الناس بها. أما مينغ واصل حياته.

أنهى مينغ قصته وفتح عينيه. أنا مندهش من روايته العجيبة، ناهيك عن شكّي بها. ومع ذلك، لا أفهم لماذا كتم هذه الحكاية المذهلة في نفسه طويلا. سألته، فالتفت نحوي والدموع تنهمر من عينيه.

تمتم قائلاً: "لم ينبغي لي أن أروي لك القصة. لا أرويها ويبقى الناس سعداء". انزعجت من رده، وأخذت قبعتي ونهضتُ لأغادر. فجأة، أمسك معطفي بكلتا يديه وسحبني إلى وجهه... قال "الأصوات! لقد سمعتها بعد ذلك! طوال حياتي أسمعهم ولكن لا أراهم! الآن أعرف! أعرف ما الذي يتربص بي في الليل خارج نافذتي!"

لوح بإصبعه أمام وجهي. "أنت تسمعها أيضًا، لكنك لا تعرف ما هي! أنا أعرف! إنهم يتبعونك أيضًا! بيت... بات...  بيت...  بات...  خلفك في الظل!" صرخ وبصق، وتطايرت الدموع من وجهه. "دائمًا! إنهم يراقبون! يراقبونك من الظلام!"

 

https://creepypasta.fandom.com/wiki/29th_Dragon

ترجمة: Mr. Beshebbu

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق