الأحد، 7 يناير 2024

التبخر

 

الماء هو المكون الأساسي في الحياة. يروينا ويروي محاصيلنا وماشيتنا. إنه حيوي لجميع أشكال الحياة المعروفة. نعتمد عليه لغسل سياراتنا وطعامنا وإنتاج طاقتنا. له تأثير على كل نشاط في حياتنا اليومية. وبدونه تتوقف الحضارة. ستنهار الحكومات أمام عدو لا يهزم هو الجفاف. وتبقى مسألة أيام قبل أن يموت كل كائن حي على الأرض. باختصار، لن نعيش دون الماء.

بدأت تلك المحنة قبل يومين بالضبط.

لا أعرف كيف بدأ الأمر. لا أحد من الناجين يعرف. تراوحت النظريات بين شبه المعقولة كأن يكون نوعا جديدا من غازات الدفيئة، إلى المضحك كأن يكون السبب أشعة غامضة تبخّر الماء فقط. أتذكر تلك الساعات بحنين، فلم نتبيّن وقتها مقدار هول الأمر، ولم يُحكِم الهلع قبضته على الجنس البشري بعد.

ما الذي حدث؟ سأشرح لكم ببساطة. لا أعتقد أنني سأوفي الأمر حقه، لكن سأحاول.

أول شيء هو أن كل قطرة ماء عذبة على الكوكب قد تبخرت.

هل لكم أن تخيلوا أن جميع الأنهار والبحيرات وكل مصدر طبيعي للماء قد جفّت تماما ودون تفسير منطقي؟ أشك أنكم ستفهمون، لكن هذا ما حدث بالضبط. لم يقتصر هذا على المصادر الطبيعية. حسب علمي، فكل زجاجات المياه في العالم تبخرت أيضًا، وكذلك خزانات المياه والمصادر الأخرى. كما اختفى الماء من المواد الأخرى كالمشروبات الغازية، لتصبح مجرد مركبات سكرية كريهة تصيب من يتناولها بالغثيان. لم تبق قطرة ماء عذب واحدة في أي مكان على الأرض.

 

لكن أسوأ نتيجة كانت نقص المياه في المفاعلات النووية.

بدون الماء المضغوط، فإن معظم المفاعلات النووية في العالم – والتي تستخدم المياه النقية كمبّرد – لم تملك ما يكفي للتبريد، ونحو نصفها لا يملك خطط أمان جيدة. أدى هذا إلى انهيار نووي كارثي في ​​ما يقرب من نصف المفاعلات المبردة بالماء. وقع العالم، الذي يترنح بالفعل من وقع هذه الكارثة الفجائية، في فوضى تامة. توقفت الاتصالات الدولية خلال أربع وعشرين ساعة.

ولكن كان هناك تأثير ثانٍ، وهو تسمم المياه المالحة.

توافد الكثيرون على محطات تحلية المياه في الساعات الأولى. لم يجدوا شيئا.

في نفس الوقت الذي تبخرت فيه المياه تقريبا، ارتفع منسوب الملوحة في كل بحار ومحيطات الأرض. تمكنت معامل تحلية المياه من مواجهة الأمر لنحو عشرين ساعة قبل أن تنفد منها الطاقة بعد دمار المفاعلات النووية. وبهذا تم ضخ آخر دفعة من المياه العذبة في منتصف ليلة أمس.

حل الخراب بعد الجفاف.

مع اختفاء الماء، تحولت الحضارة إلى فوضى. حاولت الحكومات عبثا أن تحفظ النظام. تمرّدَ الجنود وقتلوا كل من واجههم، ثم انقلبوا على بعضهم فلم يبق إلا قلة، وهرب من هرب.

ثم أتى الأسوأ، بل كان أسوأ مما سبق.

كان هناك مصدر ماء لم يفكر به أحد. كنت محظوظا أنني أدركت وجوده قبل أي فرد آخر في مدينتي.

إنه الدم. يتكون من 90% منه من الماء، وهو السائل الوحيد المتاح.

ثم اكتشف آخرون الأمر. كان الأمر مريعا ولم أصدقه في البداية

كانت الحيوانات هي أولى الضحايا. شرب اليائسون دماء القطط والكلاب، وجميع الحيوانات الأليفة والوحشية على اختلافها. لكن أغلبها لم يحمل ما يكفي من الدم. ما زاد الوضع سوءًا أنني أعيش في مدينة كبيرة، وعدا الحيوانات الأليفة والضالة، لم تكن هناك حيوانات لنصطادها ونشرب منها. ربما كان حال أهل الريف أفضل ولكن لا أعرف، وبصراحة لا أهتم.

عرفت حينها أن البشر هم الخيار الوحيد المتاح.

رأيت الأمر يحدث قبل اثني عشر ساعة.

رجل مسن يرتدي مشملا ممزقا، شق طريقه ببطء في الشارع الذي يمر أمام منزلي. طلب المساعدة بيأس، شاكيا أن كل من في دار العجزة التي يقيم فيها إما مات أو يحتضر، وأن الممرضات هربن. كان في حالة مزرية لدرجة أنني كدت أفتح له بابي، فيرتاح من شمس الظهيرة وأمنحه بعضا من مؤونتي القليلة.

ولكن قبل أن أفتح الباب، انقض رجلان وامرأة من وراء شجرة قريبة. لم يملك العجوز المسكين أي فرصة للنجاة. هجموا عليه وقد أصابهم الجنون من العطش. كان أرعب مشهد أراه في حياتي. أخرج أحد الرجلين مطرقة وضرب مفاصل الرجل واحدة تلو الأخرى. تجمدتُ مكاني وأنا أسمع المطرقة تحطم عظامه. أخرج الآخر معزقة ورفعها نحو العجوز ثم هوى بها على رجليه وقطع كاحليه.

جعلني هول المنظر أتقيأ. رفعت رأسي لأنظر مجددا بداعي الفضول. ليتني لم أفعل.

وقفت المرأة، التي كانت بلا سلاح، على صدر الرجل. أسكتت بيديها صراخ الرجل بينما ذبحه رفيقاها. ثم غرست إبهاميها في عينيه. كان يعوي كحيوان جريح. غرست أظافرها بقوة. أخرجت أصابعها وتناثر عليها الدم وبعض السوائل. أخذت عينيه وأكلتهما وكأنها ثمرة فاكهة. كنت أسمع أصوات المضغ من باب منزلي. عقدوا عزمهم على شرب دمه الثمين.

سميت هؤلاء "الشاربين".

هناك أمر واحد أريد إيضاحه. إنهم ليسوا زومبي. لا يتأثرون بقوى خارجية تجبرهم على شرب الدم، مثل فيروس أو مرض. هم بشر تماما. أظن أن الجفاف أثر عليهم بشكل أسوأ من الآخرين وأجبرهم على شرب دم البشر ليعيشوا مثلما فعلت القبائل آكلة لحوم البشر. إنهم يمثلون الجانب المظلم للبشرية. كما يظهر أنهم يتعرفون على بعضهم من خلال إشارات معينة. أنا لست منهم، فلن أعرف ذلك.

أسرعت إلى غرفة نومي وأخذت معي كل مؤني الضئيلة وبعض وسائل الراحة الصغيرة ومفكرة ومسدس. دفعت السرير لأسدّ الباب وكدّست الأثاث فوقه. لدي مخزنان للمسدس وما مجموعه أربعة عشر رصاصة. ثلاثة عشر للشاربين، وأظن أنكم تعرفون لمن الأخيرة.

مرت ست ساعات. أشعر بالجفاف الشديد. أشعر بالخدر في لساني، وبشرتي خشنة كورق الصنفرة. حاولت أن آكل بعض الخبز وكدت أختنق، فلا أملك لعابا أرطب به حلقي. الآن أنا جائع وعطشان. لا أعرف حتى لماذا أواصل الكتابة. ربما لأشغل نفسي بشيء خلال الساعات الأخيرة للبشرية. ربما سيجدون حلا وسيقرأ مذكراتي شخص في المستقبل ويتذكر كيف كان حالنا. ربما أنا أتوهّم فقط.

حالي يزداد سوءًا. أتنفس بصعوبة وأصبحت خاملاً. أحس بالغرفة وكأنها حمام بخار. أرى موجات الحرارة وهي تتراقص عبر الغرفة، وأحس بها تشتد حتى تطبخني حيا. قلمي ينزلق من يدي وأعاني الضعف. أخشى أنني لن أقدر حتى على الضغط على الزناد عندما يحين الوقت.

أنا عطشان جدا. آخر مرة تبولت فيها كان بولي يحرقني. لم أتبرز منذ زمن. نظري يضعف وأشعر وكأن رأسي سينفلق من الضغط الشديد بداخله. بشرتي جافة. أعلم أنني سأموت، لكن ما زلت أملك المسدس. ربما يجب أن أفعلها قبل أن أفقد القوة على فعلها. هذا أفضل من الموت عطشا أو أن ينال الشاربون مني.

أنا عطشان جدا. المكان مظلم وفقدت مسدسي. يكاد نظري يختفي.

سأجن. أنا أموت. أحد ما يطرق الباب. يطلب أن أسمح له بالدخول. يقولون أن الشاربين قادمون.

هل عليّ إدخاله؟ لا أعرف.

ربما سأذهب لأتناول شرابا. أنا عطشان جدا.

القصة: Evaporation

الكاتب الأصلي: Archfeared

http://www.creepypasta.com/evaporation

ترجمة: Mr. Beshebbu

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق