أعرف هذا الطريق أكثر من نفسي.
أعرف جميع الأميال المائتين والخمسين على الطريق بين الولايات رقم 85. تستغرق الرحلة في المتوسط 3 ساعات و26 دقيقة عندما تسير غربًا من شارلوت إلى أتلانتا، و3 ساعات و29 دقيقة لنفس الرحلة شرقا. أعرف سعر البنزين في عشرات المحطات، وساعات إغلاق جميع المطاعم والمقاهي. أعرف جميع المنعطفات وجميع أشجار الصنوبر والبلوط. ألِفتُ الظلام الذي ينسدل على ليالي الشتاء الطويلة والرطوبة في نسيم الصيف. أعرف هذه الأشياء جيدًا لأنها أصبحت جزءا من وجودي الآن.
أعرف أسماء جميع المخارج غربًا وشرقًا. باتسفيل، بوبلار سبرينغز، سبارتانبورغ. لكن المخرج في طريق سيلفر كريك ليس بينها. لم أره مجددا خلال السنوات الثلاث التي قضيتها في حلقة لا تنتهي. إن حدث أن شككت بوجوده، فسينتهي كل شيء بالنسبة لي.
لم أجد هذا المخرج على أي خريطة. ربما كان موجودا في يوم ما، ولكنه اختفى عن الأرض ومن كل ذاكرة وسجل. قضيت في البداية أيامًا طويلة وقلقة وأنا أبحث في خرائط المسح القديمة ووثائق ومخططات المقاطعات. بحثت عبثًا عن أي علامة تدل على الطريق، أو المخرج الذي أعلم أنني دخلته. لم تبق أي مكتبة أو مخزن سجلات إلا وقرأت ما بها. لم يبق أي مسؤول إلا وسألته. عندها بدأت الرحلة بنفسي.
استهلكت سيارتين واستنفدت مدخراتي، وأعيش الآن على بطاقات الائتمان وأكاد أستهلكها أيضا. لا أملك عنوانا استلم عليه فواتيري، ولا أنوي دفع أي منها. ملأت صندوق السيارة بأباريق بلاستيكية مليئة بالبنزين في وقت كانت فيه بطاقاتي مقبولة. عندما تتعطل هذه السيارة تماما، فأظن أن عليّ أن أتعلم الركوب مع الغرباء.
أول مرة دخلت فيها مخرج سيلفر كريك كانت في الصيف قبل ثلاثة أعوام. كنت مع بوني في تلك الليلة. لم يبق في ذاكرتي سوى بضع صور من تلك الرحلة، وشعرها الأسود الذي يموج كالسنابل في نسيم المساء، وابتسامتها ونمشها.
ارتحلنا معًا عشرات المرات بين شقتنا في أتلانتا وبيت شقيقها في شارلوت. لم يكن هناك شيء مميز في تلك الليلة. نفد الوقود ببساطة ودخلنا أول مخرج صادفناه. أذكر بوضوح أنني مررت تحت أحرف خضراء وبيضاء تمثل كلمة "مخرج"، والانعطاف الحاد للطريق.
تحول المشهد من أضواء وضوضاء الطريق السريع إلى ظلام حالك وهادئ وسط أشجار الصنوبر. مجرد طريق آخر بين مئات الطرق الريفية، لكن القلق راودني وأنا أرى أضواء السيارة تنير الظلام. رأيت أشجار الصنوبر وهي سوداء مظلمة حتى أمام نور المصابيح الأمامية، وأصبح الطريق وعرا، مليئا بالحفر وغير مستوي.
كان هدير سيارتي هو الصوت الوحيد على الطريق، ولم أرى أي نور آخر أمامي. شعرت أن جسدي كله ينقبض. نظرت إلى بوني التي ضمت ساقيها النحيفتين على صدرها ونظرت إليّ بدهشة ورفعت حاجبيها. كانت تظهر الشجاعة، وهو ما ساعدني لأبدد الخوف الذي يتصاعد داخلي.
نظرت إلى الطريق، وشعرت بضغط مفاجئ على صدري. رأيت نهاية الطريق على المصابيح الأمامية. لم أرى من الطريق سوى ألواح الإسفلت المحطمة، ثم اختفى ما بقي منه داخل الغابة. رأيت شيئا يتلألأ بين الأشجار ومددت يدي لألتقطه. كان صدام سيارة من الكروم الأملس، وهو متصل بسيارة صدئة ومحاطة بأشجار الصنوبر الشاهقة.
أحست بالذعر والارتباك يصل إلى شعر رأسي وأصبحت مفاصل يدي بيضاء من قبضها على عجلة القيادة. وضعت بوني يدها على كتفي. "علينا أن نستدير الآن".
أثرت بي كلمتها الأخيرة، حيث بدا أن الظلام يضيّق علينا أكثر. أدرت عجلة القيادة، وعندها أدركت مدى ضيق الطريق. عندما دخلنا كان هناك مساران، أنا متأكد من ذلك، لكن يبدو أن الغابة تضغط على السيارة من الجانبين. كان ضيقا جدا ولم أقدر على الالتفاف. أحسست بنبض الدم في صدغي، ورجعت بالسيارة على الفور. كانت أغصان الأشجار تلمس السيارة من الجانبين. خدوش ناعمة من الأوراق الإبرية وضربات خفيفة من الأغصان.
وضعت بوني يدها على ركبتي كي تهدئ من روعي. ظهر الطريق السريع بعد لحظات، وبدت الغابة تنزاح كأنها ستارة. أطلقت بوني أنفاسها المكتومة وضحكت بهدوء، وشعرت بالنشوة تغمرني. تبادلت معها الابتسامات ونظرات الراحة. ثم سمعنا صفارة حادة وسط الصمت، ورأينا وميض المصابيح الزرقاء والحمراء.
كانت سيارة الشرطة متوقفة في وسط الطريق، وجاثمة مثل حيوان مفترس. غمر وميض المصابيح الملونة الطريق بظلال غريبة. أوقفت المحرك، وسمعت صوت باب سيارة وهو يٌقفل، وخطوات حذاء ثقيل على الطريق تسير نحونا.
ارتحنا لمنظر الضابط في المرآة الجانبية وهو يقترب في الظلام. لكن هناك أمر غريب. لم يحمل مصباحًا يدويًا، ورأيت يديه تتدليان على جانبيه وهو يسير نحوي. كان يرتدي ملابس شتوية سميكة، ورفع ياقته وخفض قبعته. اقترب من نافذتي وأمال ظهره لينظر إليّ، أدركت أنه كان نحيفًا وطويلًا.
"الرخصة والأوراق". كان صوته مكتومًا وغليظًا وبالكاد فهمته، وبدا لي أن حركة شفتيه لا توافق كلماته. أحسست أن هواء الصيف كان أدفأ حوله. لم تكن هناك أصوات، ولا ريح في أشجار الصنوبر، ولا طنين الحشرات.
كنت مذهولا بغرابة ما رأيته، وكأنني أرى تقليدا سخيفا لجسد رجل. سألت نفسي إن كنت أحلم. لاحظت أيضا أنه لا يلبس شارة، وكان يرتدي ملابس سوداء لا ملامح لها.
أحسست أن ضبابا من الرعب والذعر تكثف حولي فجأة، وقادتني غريزة البقاء الحيوانية أن أمدّ يدي نحو المفاتيح.
كان أسرع مني. ضرب صدغى بقفازه الأسود، فأرسل وابلا من النجوم داخل عيني اليسرى، وأحسست بالعالم ينقلب.
أتذكر منظره وهو يسحبني من السيارة، وكانت حرارة قبضته شديدة وتحرقني. أتذكر سماعي لصرخات بوني ورأيتها تهرب لمسافة قصيرة قبل أن تقبض عليها ذراعاه الطويلتان. سقط أحد قفازيه في الصراع وخرجت منه يده بيضاء شاحبة، وكأنها عنكبوت هائل، كل إصبع ينتهي بمخلب أسود مقوّس. كان العالم يدور من حولي، وجاهدت لأحرك أطرافي.
كانت بوني تعرج بين ذراعيّ الكائن الذي اقترب مني مرة أخرى، وأحسست أنني كالمشلول. التقت أعيننا. لم يبدو كإنسان، بل كان قبيحا ونحيلا وشاحبا وأطرافه تتحرك بطرق غريبة. رأيته يبتسم، وكشفت شفتاه عن صفين من الإبر البيضاء.
كنت أركض قبل أن انتبه لنفسي. أصابني بالدوار وأنا أجري على الطريق. ثم بدأ عقلي يستعيد توازنه. صرخت على نفسي "يا لي من جبان!". ارتجفت ساقاي وغمرني شعور بالذنب. تخيلت وجه بوني وشعرت بخجل وعار عميقين.
ثم صدمتني سيارة. ضغطت مكابحها فجأة وانزلقت على الطريق. رمتني في وسط الطريق، وسقطت على مؤخرة جمجمتي. استيقظت بعد ثلاثة أيام وأنا ملفوف بالجبس وغارق تحت تأثير المورفين.
غافني، بلاكسبرغ، كينغز ماونتن. أرى المخارج أمامي، وكلما أمر بواحد تقلّ فرصة عثوري على مخرج سيلفر كريك. استحال عليّ في الأيام الأولى أن أتقبل عدم وجود هذا الطريق من الخريطة، ولذلك قرّرت أن أقود بنفسي، وقرأت جميع الإشارات بعناية. لم يظهر أمامي، فقمت بالرحلة من جديد في الليل.
يقال أن التكرار يصنع أنماطا مألوفة تبعث على السلام الداخلي. أرى أشكال الأرض وتناوب المدن والأشجار، لكن منظرها يبدد أملي ببطء. في معظم الأيام، أقبل حقيقة أن بوني قد رحلت. لكن هناك دائمًا طيف من الشك، وخيط من الأمل.
هناك شيء واحد يجب أن أؤمن به: إذا ظهر مرة، فسيظهر مرة أخرى. وإذا حدث أن وجدته فسأقتله. إذا فشل الرصاص في قتله، فلن أحتاج سوى لبضع لحظات أشعل فيها صندوق السيارة وأغوي الشيء ليتقدم نحوي.
أقسم للنجوم أنني لن أتوقف عن البحث.
القصة: Exit
الكاتب الأصلي: Josef K.
https://www.creepypasta.com/exit
ترجمة: Mr. Beshebbu
قصصك تبدو رائعة ومثيرة للإهتمام، لكن هل مسمى الـ"كريبي باستا" في موقعك يتكلم بشكل عام عن الرعب أو عن القصص الخرافية للأساطير مثل جماعة البروكسي - سلندرمان - بين الغارق أو غيرهم؟
ردحذفشكراً، أتمنى لك التوفيق.
افضل موقع اتابع قصصك من 2018
ردحذف