لم أر المحيط حتى بلغت التاسعة عشرة. كنت فتى خارجا من القطار ومتجها من أماريلو إلى سان دييغو. ملأني منظره بشيء من الخوف، بكل ما فيه من ماء وأمواج قوية. سبق أن رأيت البحيرات الكبيرة، لكن هذا لم يشبه أي منها. لا أعتقد أن بإمكاني وصف المرة الأولى.
يمكنكم تخيل حالتي خلال الأسابيع التالية عندما أعطوني بندقية ووضعوني على متن قارب. قد يكون أصعب ما واجهته هو دوار البحر الذي جعلني أخرج كل ما في جوفي. اختفت الأرض وحلت محلها الأمواج المتلاطمة، وفكرت أن هذه الرهبة لا تفوقها إلا أهوال الحرب.
شعرت بشيء من الراحة عندما رأيت تلك الجزيرة. نقلونا إلى قارب أصغر في منتصف الليل مع حقائب وبنادق. انطلقنا إليها بعد تلقينا الأوامر بذلك. جمعنا الملازمون في فصائلنا وأخبرونا أن الجزيرة كانت ضائعة.
كان هذا كل ما في الأمر. هذه البقعة الصغيرة من الأرض وسط المحيط الهادئ، تم اكتشافها مؤخرًا ولم يتم رسمها على الخريطة. ذكر القائد أن اليابانيين لم يستحوذوا عليها بعد، بما أنهم بعيدون في أقصى الشرق والجنوب، لكن بعد التحليق فوقها مؤخرًا وجدوا ما بدا وكأنه مطار.
وصلنا الشاطئ في منتصف الليل. ولا أخفيكم القول أنني كنت خائفًا. لم أعرف ما يجب أن أتوقعه، لكنني لم أتوقع هذا الصمت الثقيل. لم يكن هناك شيء سوى ارتطام الأمواج والرياح بالأشجار. ولكن غير ذلك لم نسمع أصوات الطيور أو الحشرات. بل سكون طاغي.
تقدمنا مائة متر آخر في أعماق الغابة، ثم توقفنا في مساحة صغيرة حتى يجتمع الضباط. كان الخوف واضحا عليهم وإن حاولوا إخفاءه. كنت أعرف أن هناك شيئًا مريبًا في الموضوع. كان الأمر كما لو أن الجزيرة بأكملها ميتة. أتذكر أنني لم أشم سوى رائحة البحر رغم تفتح الزهور الحمراء على الأشجار.
لم نجد مطارًا على قمة الهضبة. لا يمكنني أن أخبركم بماهيته، لأنني لم أر شيئًا مثله من قبل. ربما أصفه بأنه مثل أهرامات الأزتك، ولكنه مقلوب رأسًا على عقب، حيث تنزل الدرجات العملاقة داخل الأرض، ولكن هذا لا يصف عمقه حق الوصف.
لم نجد علامة واحدة على وجود طوب، بل بدا وكأنه نُحت من كتلة واحدة ضخمة من الصخر الأسود. كان أملسًا وناعمًا مثل حجر السبج، ولكنه لم يلمع. بدا وكأنه يمتص الضوء، حتى ضوء القمر، ولذلك استحال علينا أن نرى مدى عمقه، أو حتى أن نركز أعيننا على أي جزء منه.
حظيت فصيلتنا بشرف التحقيق في المستويات الدنيا، لذلك نزلنا الدرج بينما أحاط باقي أفراد المجموعة بالهضبة. نزلنا الدرج ببطء وحذر، إذ أن الرجل الأول جرح يده وهو يتلمس طريقه، بل أن الحواف الحادة اخترقته حتى العظم.
كنا نجد في طريقنا عدة غرف حجرية صغيرة. كانت عبارة عن مكعبات بسيطة وفارغة ذات فتحة واحدة تواجه الحفرة في المركز. لم يكن هناك باب واضح، وعليك أن تضع يديك على الحواف السوداء الحادة لتتسلق إليها.
درنا حول الطوابق في الأسفل، مسلطين الأضواء على الأبنية الصغيرة؛ والتي لم تحتوي داخلها إلا نفس الجدران السوداء الناعمة. لا غبار ولا أوراق شجر أو غيرها من مخلفات الغابة، كان النصب كله نظيفا وكأنه بني للتو.
في الأسفل قرب القاع، رأينا أن المكان ينحدر نحو الظلام الذي ابتلع نور الكشافات. ألقينا زرًا أسفل الحفرة في البداية ثم غلاف رصاصة. انتظرنا صدور أي صوت ولم نسمع شيئا. ابتعدنا عن تلك الهاوية وواصلنا مسيرنا على الدرجات.
كانت هناك جثة. كانت خفية تقريبا في إحدى الزوايا المظلمة، لكن الدم الجاف الذي سال منها انعكس على ضوء مصابيحنا اليدوية، وأدى إليها مباشرة. تم لف وذراعيه حول فخذيه بإحكام، ووجهه مطوي على ركبتيه. أمكننا رؤية مدى خطورة جروحه، وكانت ثيابه الدامية ممزقة وكشفت تحتها الجلد الشاحب والعظام. ربما كان يرتدي زيًا يابانيًا.
لم تمض بضع ثوان حتى سمعنا الطلقات الأولى. تردد صداها مثل أزيز الحشرات من بعيد. وصلنا إلى القمة ووجدنا أن بقية المجموعة قد اختفت. كانت هناك أغلفة رصاص على الأرض وبقيت رائحة البارود الساخن في الهواء، لكنهم اختفوا. كانت الأشجار هادئة وكأنها ميتة، ولم نجد أي أثر للخمسين رجلاً الذين حضروا معنا إلى الشاطئ. بدأ حلقي ينشف وبدأ الذعر يشلني؛ شعرت أنني أسحق بين الحفرة من جانب والغابة الميتة والمحيط من الجانب الآخر. جاهدت لأبقى ثابتا.
كانوا داخل الغابة ينتظروننا. خرجوا من بين الأشجار واندفعوا نحونا.
سأحاول إخباركم بما رأيته، كما فعلت مع طبيب الجيش على متن سفينة الإسعاف عندما استيقظت، وكما أخبرت عدة ضباط خلال الأشهر التالية، وستكون ردة فعلكم مثلهم تماما؛ أنني كنت مذهولا وتعرضت لضربة شمس. وأن كلامي صدر من رجل مجنون.
أنا أعلم أنني لست مجنونًا. وأتني أتذكر كل ثانية من تلك الليلة بوضوح.
أول مخلوق هجم علينا كان يرتدي جلد جندي ياباني، وتعلوه البقع وبطنه منتفخة من العفن. الرأس متدلي على كتفيه، اللسان منتفخ وعيناه غائرتان، وكان جسده يتداعى وملأت الثقوب والجروح لحمه الجاف. رأيت داخل محجري عينيه سوادا أعمق من حجارة المبنى، وكأن الظلام يخرج منه مثل سحابة غاضبة.
تحرك الشيء فجأة واندفع نحونا. تلك الحركة الفجائية قصمت رقبته وجعلت رأسه يتدلى إلى الوراء. أحكمت قبضتي على بندقيتي، لكن ببساطة لم أفكر حتى بإطلاق النار. كل ما فعلته هو التحديق بهذا المشهد المروع، وذكرني منظره بدمى أمي المتحركة.
انطلق مسدس بجانبي، واستدرت لأرى المزيد في هذه المخلوقات المرعبة تهجم علينا بصمت. كان عدد منها متعفنا ومتورما، لكن أغلبهم كانوا يرتدون نفس زيّنا، وكانوا شاحبين وملطخين بالدم. تطاير الرصاص في الهواء وأصاب تلك الأشياء مرارًا وتكرارًا، لكنها لم تبطئ من جريها.
رأيت النقيب بينهم وكانت عيناه فارغتين ورأسه يتدلى من كتفيه. رأيت الجرح الكبير في ظهره عندما قفز بالقرب مني بكل هدوء، وانقض مثل فهد رشيق على الجندي بجانبي. بدأ الآخرون من حولي يتساقطون من الهلع.
كنت في فريق الجري في المدرسة الثانوية، وهو ما ساعدني في هذه اللحظة. ركضتُ وأنا أجاهد لتجنب جذوع الأشجار وسط الظلام؛ ولم أتوقف حتى رأيت المحيط. استدرت خلفي نحو الأشجار ورأيت أحد تلك الوحوش وهي تجري على أطرافها الأربعة، وكان ظهره ملتويا بطريقة مستحيلة.
حتى يومنا هذا، أتصبب عرقا باردا بمجرد التفكير بالمحيط، لكن في تلك الليلة تركت المد يجرني إلى البحر، وارتاح عقلي ولو قليلا من هذا الرعب. بقيت أياما وانا أنجرف بعيدا عن الشاطئ، وقد أحرقت الشمس جلدي حتى تقرح، ولكنني تحررت من تلك الجزيرة.
لم أشهد الحرب، بل أرسلوني إلى المنزل بمجرد أن تعافيت.
لم يصدقني أحد، ولكن هذا أشعرني بشيء من الراحة عوضا عن الغضب، إذ جعلني هذا أصدق أن ما رأيته هناك لم يحدث أبدا وأنه كان من نتاج عقلي. لكن مع تقدمي في العمر، وجدت أنه من غير المجدي أن يكذب المرء على أحد، وخاصة مع نفسه. أنا أعلم ما رأيته.
لكني أعلم أن هناك من يصدق هذه الحكاية.
رأيت خرائط للمكان الذي اختبروا فيه القنابل الهيدروجينية. رأيت بها تلك الجزيرة.
القصة: Quiet
https://creepypasta.fandom.com/wiki/Quiet
الكاتب الأصلي: Josef K.
ترجمة: Mr. Beshebbu
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق